تمهيد
نبذة عن حياة الشاعر
أحمد شوقي أحمد شوقي.. أمير الشعراء
كان الشعر العربي على موعد مع القدر ، ينتظر من يأخذ بيده ، ويبعث فيه روحًا جديدة تبث فيه الحركة والحياة ، وتعيد له الدماء في الأوصال ، فتتورد وجنتاه نضرة وجمالاً بعد أن ظل قرونًا عديدة واهن البدن ، خامل الحركة ، كليل البصر .
وشاء الله أن يكون " البارودي " هو الذي يعيد الروح إلى الشعر العربي ، ويلبسه أثوابًا قشيبة ، زاهية اللون ، بديعة الشكل والصورة ، ويوصله بماضيه التليد ، بفضل موهبته الفذة وثقافته الواسعة وتجاربه الغنية .
ولم يشأ الله تعالى أن يكون البارودي هو وحده فارس الحلبة ونجم عصره - وإن كان له فضل السبق والريادة - فلقيت روحه الشعرية الوثابة نفوسًا تعلقت بها ، فملأت الدنيا شعرًا بكوكبة من الشعراء من أمثال : إسماعيل صبري ، وحافظ إبراهيم ، وأحمد محرم ، وأحمد نسيم ، وأحمد الكاشف ، وعبد الحليم المصري . وكان أحمد شوقي هو نجم هذه الكوكبة وأميرها بلا منازع عن رضي واختيار ، فقد ملأ الدنيا بشعره ، وشغل الناس ، وأشجى القلوب .
المولد والنشأة
ولد أحمد شوقي بحي الحنفي بالقاهرة في (20 من رجب 1287 هـ = 16 من أكتوبر 1870م) لأب شركسي وأم من أصول يونانية ، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل ، وعلى جانب من الغنى والثراء ، فتكفلت بتربية حفيدها ونشأ معها في القصر ، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتّاب الشيخ صالح ، فحفظ قدرًا من القرآن وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة ، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وأظهر فيها نبوغًا واضحًا كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات المدرسة ، وانكب على دواوين فحول الشعراء حفظًا واستظهارًا ، فبدأ الشعر يجري على لسانه .
وبعد أن أنهى تعليمه بالمدرسة وهو في الخامسة عشرة من عمره التحق بمدرسة الحقوق سنة (1303هـ = 1885م) ، وانتسب إلى قسم الترجمة الذي قد أنشئ بها حديثًا ، وفي هذه الفترة بدأت موهبته الشعرية تلفت نظر أستاذه الشيخ " محمد البسيوني " ، ورأى فيه مشروع شاعر كبير، فشجّعه ، وكان الشيخ بسيوني يُدّرس البلاغة في مدرسة الحقوق ويُنظِّم الشعر في مدح الخديوي توفيق في المناسبات ، وبلغ من إعجابه بموهبة تلميذه أنه كان يعرض عليه قصائده قبل أن ينشرها في جريدة الوقائع المصرية ، وأنه أثنى عليه في حضرة الخديوي ، وأفهمه أنه جدير بالرعاية ، وهو ما جعل الخديوي يدعوه لمقابلته .
السفر إلى فرنسا
وبعد عامين من الدراسة تخرّج من المدرسة ، والتحق بقصر الخديوي توفيق ، الذي ما لبث أن أرسله على نفقته الخاصة إلى فرنسا ، فالتحق بجامعة " مونبلييه " لمدة عامين لدراسة القانون، ثم انتقل إلى جامعة باريس لاستكمال دراسته حتى حصل على إجازة الحقوق سنة (1311هـ = 1893م) ، ثم مكث أربعة أشهر قبل أن يغادر فرنسا في دراسة الأدب الفرنسي دراسة جيدة ومطالعة إنتاج كبار الكتاب والشعر .
العودة إلى مصر
عاد شوقي إلى مصر فوجد الخديوي عباس حلمي يجلس على عرش مصر ، فعيّنه بقسم الترجمة في القصر ، ثم ما لم لبث أن توثَّقت علاقته بالخديوي الذي رأى في شعره عونًا له في صراعه مع الإنجليز ، فقرَّبه إليه بعد أن ارتفعت منزلته عنده ، وخصَّه الشاعر العظيم بمدائحه في غدوه ورواحه ، وظل شوقي يعمل في القصر حتى خلع الإنجليز عباس الثاني عن عرش مصر ، وأعلنوا الحماية عليها سنة (1941م) ، وولّوا حسين كامل سلطنة مصر ، وطلبوا من الشاعر مغادرة البلاد ، فاختار النفي إلى برشلونة في أسبانيا ، وأقام مع أسرته في دار جميلة تطل على البحر المتوسط .
شعره في هذه الفترة
ودار شعر شوقي في هذه الفترة التي سبقت نفيه حول المديح ؛ حيث غمر الخديوي عباس حلمي بمدائحه والدفاع عنه ، وهجاء أعدائه ، ولم يترك مناسبة إلا قدَّم فيها مدحه وتهنئته له ، منذ أن جلس على عرش مصر حتى خُلع من الحكم ، ويمتلئ الديوان بقصائد كثيرة من هذا الغرض .
ووقف شوقي مع الخديوي عباس حلمي في صراعه مع الإنجليز ومع من يوالونهم ، لا نقمة على المحتلين فحسب ، بل رعاية ودفاعًا عن ولي نعمته كذلك ، فهاجم رياض باشا رئيس النُظّار حين ألقى خطابًا أثنى فيه على الإنجليز وأشاد بفضلهم على مصر ، وقد هجاه شوقي بقصيدة عنيفة جاء فيها :
غمرت القوم إطراءً وحمدًا @@@ وهم غمروك بالنعم الجسام
خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا @@@ أضيف إلى مصائبنا العظام
لهجت بالاحتلال وما أتاه @@@ وجرحك منه لو أحسست دام
وبلغ من تشيعه للقصر وارتباطه بالخديوي أنه ذمَّ أحمد عرابي وهجاه بقصيدة موجعة ، ولم يرث صديقه مصطفى كامل إلا بعد فترة ، وكانت قد انقطعت علاقته بالخديوي بعد أن رفع الأخير يده عن مساندة الحركة الوطنية بعد سياسة الوفاق بين الإنجليز والقصر الملكي ؛ ولذلك تأخر رثاء شوقي بعد أن استوثق من عدم إغضاب الخديوي ، وجاء رثاؤه لمصطفى كامل شديد اللوعة صادق الأحزان ، قوي الرنين ، بديع السبك والنظم، وإن خلت قصيدته من الحديث عن زعامة مصطفى كامل وجهاده ضد المستعمر ، ومطلع القصيدة :
المشرقان عليك ينتحبان @@@ قاصيهما في مأتم والدان
يا خادم الإسلام أجر مجاهد @@@ في الله من خلد ومن رضوان
لمّا نُعيت إلى الحجاز مشى الأسى @@@ في الزائرين وروّع الحرمان
وارتبط شوقي بدولة الخلافة العثمانية ارتباطًا وثيقًا ، وكانت مصر تابعة لها، فأكثر من مدح سلطانها عبد الحميد الثاني ؛ داعيًا المسلمين إلى الالتفات حولها ؛ لأنها الرابطة التي تربطهم وتشد من أزرهم ، فيقول :
أما الخلافة فهي حائط بيتكم @@@ حتى يبين الحشر عن أهواله
لا تسمعوا للمرجفين وجهلهم @@@ فمصيبة الإسلام من جهالة
ولما انتصرت الدولة العثمانية في حربها مع اليونان سنة (1315هـ = 1987م) كتب مطولة عظيمة بعنوان " صدى الحرب " ، أشاد فيها بانتصارات السلطان العثماني ، واستهلها بقوله :
بسيفك يعلو والحق أغلب @@@ وينصر دين الله أيان تضرب
وهي مطولة تشبه الملاحم ، وقد قسمها إلى أجزاء كأنها الأناشيد في ملحمة ، فجزء تحت عنوان " أبوة أمير المؤمنين " ، وآخر عن " الجلوس الأسعد " ، وثالث بعنوان " حلم عظيم وبطش أعظم " . ويبكي سقوط عبد الحميد الثاني في انقلاب قام به جماعة الاتحاد والترقي ، فينظم رائعة من روائعه العثمانية التي بعنوان " الانقلاب العثماني وسقوط السلطان عبد الحميد " ، وقد استهلها بقوله :
سل يلدزا ذات القصور @@@ هل جاءها نبأ البدور
لو تستطيع إجابة @@@ لبكتك بالدمع الغزير
ولم تكن صلة شوقي بالترك صلة رحم ولا ممالأة لأميره فحسب ، وإنما كانت صلة في الله ، فقد كان السلطان العثماني خليفة المسلمين ، ووجوده يكفل وحدة البلاد الإسلامية ويلم شتاتها ، ولم يكن هذا إيمان شوقي وحده ، بل كان إيمان كثير من الزعماء المصريين .
وفي هذه الفترة نظم إسلامياته الرائعة ، وتعد قصائده في مدح الرسول - r - من أبدع شعره قوة في النظم ، وصدقًا في العاطفة، وجمالاً في التصوير ، وتجديدًا في الموضوع ، ومن أشهر قصائده " نهج البردة " التي عارض فيها البوصيري في بردته ، وحسبك أن يعجب بها شيخ الجامع الأزهر آنذاك محدث العصر الشيخ " سليم البشري " فينهض لشرحها وبيانها . يقول في مطلع القصيدة :
ريم على القاع بين البان والعلم @@@ أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
ومن أبياتها في الرد على مزاعم المستشرقين الذين يدعون أن الإسلام انتشر بحد السيف :
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا @@@ لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة @@@ فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
ويلحق بنهج البردة قصائد أخرى ، مثل : الهمزية النبوية ، وهي معارضة أيضًا للبوصيري ، وقصيدة ذكرى المولد التي مطلعها :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا @@@ لعل على الجمال له عتابًا
كما اتجه شوقي إلى الحكاية على لسان الحيوان ، وبدأ في نظم هذا الجنس الأدبي منذ أن كان طالبًا في فرنسا ؛ ليتخذ منه وسيلة فنية يبث من خلالها نوازعه الأخلاقية والوطنية والاجتماعية ، ويوقظ الإحساس بين مواطنيه بمآسي الاستعمار ومكائده .
وقد صاغ شوقي هذه الحكايات بأسلوب سهل جذاب ، وبلغ عدد تلك الحكايات 56 حكاية ، نُشرت أول واحدة منها في جريدة " الأهرام " سنة (1310هـ = 1892م ) ، وكانت بعنوان " الهندي والدجاج " ، وفيها يرمز بالهندي لقوات الاحتلال وبالدجاج لمصر .
النفي إلى أسبانيا
وفي الفترة التي قضاها شوقي في أسبانيا تعلم لغتها ، وأنفق وقته في قراءة كتب التاريخ ، خاصة تاريخ الأندلس ، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي قراءة متأنية ، وزار آثار المسلمين وحضارتهم في اشبيلية وقرطبة وغرناطة .
وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته " دول العرب وعظماء الإسلام " ، وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة ، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة ، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي ، وقد نُشرت بعد وفاته .
وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق وملك عليه جوارحه وأنفاسه . ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه ، وظفر الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعر صدقًا في العاطفة وجمالاً في التصوير ، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان " الرحلة إلى الأندلس " ، وهي معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى ، ومطلعها :
صنت نفسي عما يدنس نفسي @@@ وترفعت عن جدا كل جبس
وقد بلغت قصيدة شوقي (110) أبيات تحدّث فيها عن مصر ومعالمها ، وبثَّ حنينه وشوقه إلى رؤيتها ، كما تناول الأندلس وآثارها الخالدة وزوال دول المسلمين بها ، ومن أبيات القصيدة التي تعبر عن ذروة حنينه إلى مصر قوله :
أحرام على بلابله الدوح @@@ حلال للطير من كل جنس
وطني لو شُغلت بالخلد عنه @@@ نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني @@@ شخصه ساعة ولم يخل حسي
العودة إلى الوطن
عاد شوقي إلى الوطن في سنة (1339 هـ = 1920م ) ، و استقبله الشعب استقبالاً رائعًا واحتشد الآلاف لتحيته ، وكان على رأس مستقبليه الشاعر الكبير " حافظ إبراهيم " ، وجاءت عودته بعد أن قويت الحركة الوطنية واشتد عودها بعد ثورة 1919 م ، وتخضبت أرض الوطن بدماء الشهداء ، فمال شوقي إلى جانب الشعب ، وتغنَّى في شعره بعواطف قومه وعبّر عن آمالهم في التحرر والاستقلال والنظام النيابي والتعليم ، ولم يترك مناسبة وطنية إلا سجّل فيها مشاعر الوطن وما يجيش في صدور أبنائه من آمال .
لقد انقطعت علاقته بالقصر واسترد الطائر المغرد حريته ، وخرج من القفص الذهبي ، وأصبح شاعر الشعب المصري وترجمانه الأمين ، فحين يرى زعماء الأحزاب وصحفها يتناحرون فيما بينهم ، والمحتل الإنجليزي لا يزال جاثم على صدر الوطن ، يصيح فيهم قائلاً :
إلام الخلف بينكم إلاما ؟ @@@ وهذي الضجة الكبرى علاما ؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض @@@ وتبدون العداوة والخصاما ؟
وأين الفوز ؟ لا مصر استقرت @@@ على حال ولا السودان داما
ورأى في التاريخ الفرعوني وأمجاده ما يثير أبناء الشعب ويدفعهم إلى الأمام والتحرر ، فنظم قصائد عن النيل والأهرام وأبي الهول . ولما اكتشفت مقبرة توت عنخ آمون وقف العالم مندهشًا أمام آثارها المبهرة ، ورأى شوقي في ذلك فرصة للتغني بأمجاد مصر ؛ حتى يُحرِّك في النفوس الأمل ويدفعها إلى الرقي والطموح ، فنظم قصيدة رائعة مطلعها :
قفي يا أخت يوشع خبرينا @@@ أحاديث القرون الغابرينا
وقصي من مصارعهم علينا @@@ ومن دولاتهم ما تعلمينا
وامتد شعر شوقي بأجنحته ليعبر عن آمال العرب وقضاياهم ومعاركهم ضد المستعمر، فنظم في " نكبة دمشق " وفي " نكبة بيروت " وفي ذكرى استقلال سوريا وذكرى شهدائها ، ومن أبدع شعره قصيدته في " نكبة دمشق " التي سجّل فيها أحداث الثورة التي اشتعلت في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، ومنها :
بني سوريّة اطرحوا الأماني @@@ وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
وقفتم بين موت أو حياة @@@ فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حرٍّ @@@ يد سلفت ودين مستحقُّ
وللحرية الحمراء باب @@@ بكل يد مضرجة يُدَقُّ
ولم تشغله قضايا وطنه عن متابعة أخبار دولة الخلافة العثمانية ، فقد كان لها محبًا عن شعور صادق وإيمان جازم بأهميتها في حفظ رابطة العالم الإسلامي ، وتقوية الأواصر بين شعوبه ، حتى إذا أعلن " مصطفى كمال أتاتورك " إلغاء الخلافة سنة 1924 وقع الخبر عليه كالصاعقة ، ورثاها رثاءً صادقًا في قصيدة مبكية مطلعها :
عادت أغاني العرس رجع نواح @@@ ونعيت بين معالم الأفراح
كُفنت في ليل الزفاف بثوبه @@@ ودفنت عند تبلج الإصباح
ضجت عليك مآذن ومنابر @@@ وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة @@@ تبكي عليك بمدمع سحَّاح
إمارة الشعر
أصبح شوقي بعد عودته شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها ، لا تفوته مناسبة وطنية إلا شارك فيها بشعره ، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته منزلة عالية ، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر سنة ( 1346هـ = 1927م ) في حفل أقيم بدار الأوبرا بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه "الشوقيات " . وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه ، وأعلن حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً :
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي @@@ بشعر أمير الدولتين ورجِّعي
أعيدي على الأسماع ما غردت به @@@ براعة شوقي في ابتداء ومقطع
أمير القوافي قد أتيت مبايعًا @@@ وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
مسرحيات شوقي
أحمد شوقي و سعد زغلول
بلغ أحمد شوقي قمة مجده ، وأحس أنه قد حقق كل أمانيه بعد أن بايعه شعراء العرب بإمارة الشعر ، فبدأ يتجه إلى فن المسرحية الشعرية ، وكان قد بدأ في ذلك أثناء إقامته في فرنسا لكنه عدل عنه إلى فن القصيد .
وأخذ ينشر على الناس مسرحياته الشعرية الرائعة ، استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم ، وهما : " مصرع كليوباترا " و " قمبيز " ، والأولى منهما هي أولى مسرحياته ظهورً ، وواحدة من التاريخ الإسلامي هي " مجنون ليلى " ، ومثلها من التاريخ العربي القديم هي " عنترة " ، وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي " علي بك الكبير " ، وله مسرحيتان هزليتان، هما : " الست هدي " ، و " البخيلة " .
ولأمر غير معلوم كتب مسرحية " أميرة الأندلس " نثرًا ، مع أن بطلها أو أحد أبطالها البارزين هو الشاعر المعتمد بن عباد .
وقد غلب الطابع الغنائي والأخلاقي على مسرحياته ، وضعف الطابع الدرامي ، وكانت الحركة المسرحية بطيئة لشدة طول أجزاء كثيرة من الحوار ، غير أن هذه المآخذ لا تُفقِد مسرحيات شوقي قيمتها الشعرية الغنائية ، ولا تنفي عنها كونها ركيزة الشعر الدرامي في الأدب العربي الحديث .
مكانة شوقي
منح الله شوقي موهبة شعرية فذة ، وبديهة سيالة ، لا يجد عناء في نظم القصيدة ، فدائمًا كانت المعاني تنثال عليه انثيالاً وكأنها المطر الهطول ، يغمغم بالشعر ماشيًا أو جالسًا بين أصحابه ، حاضرًا بينهم بشخصه غائبًا عنهم بفكره ؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية ؛ إذ بلغ نتاجه الشعري ما يتجاوز ثلاثة وعشرين ألف بيت وخمسمائة بيت ، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربي قديم أو حديث .
وكان شوقي مثقفًا ثقافة متنوعة الجوانب ، فقد انكب على قراءة الشعر العربي في عصور ازدهاره ، وصحب كبار شعرائه ، وأدام النظر في مطالعة كتب اللغة والأدب ، وكان ذا حافظة لاقطة لا تجد عناء في استظهار ما تقرأ ؛ حتى قيل بأنه كان يحفظ أبوابًا كاملة من بعض المعاجم ، وكان مغرمًا بالتاريخ يشهد على ذلك قصائده التي لا تخلو من إشارات تاريخية لا يعرفها إلا المتعمقون في دراسة التاريخ ، وتدل رائعته الكبرى " كبار الحوادث في وادي النيل " التي نظمها وهو في شرخ الشباب على بصره بالتاريخ قديمة وحديثه .
وكان ذا حس لغوي مرهف وفطرة موسيقية بارعة في اختيار الألفاظ التي تتألف مع بعضها لتحدث النغم الذي يثير الطرب ويجذب الأسماع ، فجاء شعره لحنًا صافيًا ونغمًا رائعًا لم تعرفه العربية إلا لقلة قليلة من فحول الشعراء .
وإلى جانب ثقافته العربية كان متقنًا للفرنسية التي مكنته من الإطلاع على آدابها والنهل من فنونها والتأثر بشعرائها ، وهذا ما ظهر في بعض نتاجه وما استحدثه في العربية من كتابة المسرحية الشعرية لأول مرة .
وقد نظم الشعر العربي في كل أغراضه من مديح ورثاء وغزل ، ووصف وحكمة ، وله في ذلك أوابد رائعة ترفعه إلى قمة الشعر العربي ، وله آثار نثرية كتبها في مطلع حياته الأدبية ، مثل : " عذراء الهند " ، ورواية " لادياس " ، و "ورقة الآس " ، و"أسواق الذهب"، وقد حاكى فيه كتاب " أطواق الذهب " للزمخشري ، وما يشيع فيه من وعظ في عبارات مسجوعة .
وقد جمع شوقي شعره الغنائي في ديوان سماه " الشوقيات " ، ثم قام الدكتور محمد صبري السربوني بجمع الأشعار التي لم يضمها ديوانه ، وصنع منها ديوانًا جديدًا في مجلدين أطلق عليه " الشوقيات المجهولة " .
وفاته
ظل شوقي محل تقدير الناس وموضع إعجابهم ولسان حالهم، حتى إن الموت فاجأه بعد فراغه من نظم قصيدة طويلة يحيي بها مشروع القرش الذي نهض به شباب مصر ، وفاضت روحه الكريمة في ( 13 من جمادى الآخرة = 14 من أكتوبر 1932م ) .
الباب الأول
حياة شوقي وثقافته
وملامح شخصيته
الفصل الأول : في مرحلة التعليم
الفصل الثاني : فترة المجد في حياة شوقي
الفصل الثالث : العاطفة الهادئة المركزة التي تنأي عن الصخب
الفصل الأول
مرحلة التعليم
يدخل شوقي في الرابعة من عمره كتاب " الشيخ صالح " ويبدو أن الدراسة في هذا الكتاب كانت سيئة تعتمد علي التلقين والحفظ في التعليم ، والعصا ، أو ما هو أقصي منها في التربية ، وهذا ما جعله يصرح بأن إدخاله الكتاب كان " من أهلي جناية علي وجداني " وينتهي شوقي من دراسة المرحلة الثانوية في سن مبكرة " سنة 1885 م " ثم ينتهي من دراسة الحقوق والترجمة عن الفرنسية " سنة 1889 م " وكان في أثناء دراسته للحقوق يتلقى نوعاً أخر من الدراسة الأدبية ، فقد تتلمذ علي يد الشيخ حسين المرصفي أستاذ البارودي أيضاً وقرأ معه كتاب " الكشكول " لبهاء الدين العاملي وشعر البهاء زهير وكذلك اتصل شوقي في هذه المرحلة بالشيخ حفني ناصف وتتلمذ عليه سنتين .
ومع انتهاء شوقي من دراسته الحقوق تكون موهبته قد نضجت وأعلن ميلاد شاعر جديد لمصر .
وصلة شوقي الوطيدة بالقصر ، وبالخديوي توفيق ، أهلته لبعثه يدرس فيها الحقوق في فرنسا أوائل سنة 1891 م ، حيث قضي سنتين في باريس وثالثة في مونبلييه ، وكان هدف توفيق من هذه البعثة أن يصقل موهبته ، ليكون شاعره " الخاص " المسبح بحمده ، والمتحدث باسمه لذلك يطلب منه في إحدى رسائله أن يتمتع بمعالم المدينة القائمة أمامه وأن " تأتينا من مدينة النور باريز بقبس تستضئ به الآداب العربية .
علي أن شوقي – فيما يبدو – كان يقف من الأدب ومذاهبه موقف الهاوي المتذوق ، يتأثر بشعراء أو بجوانب من فنهم ، وليس بسمات محددة " لمذهب بعينه " وقد صرح منذ وقت مبكر بإعجابه بثلاثة شعراء فرنسيين علي اختلاف اتجاهاتهم وهم ( فيكتور هوجو – ألفرد دي موسيه – لامرتين ) ، وفي أواخر حياته سنة 1921 م كان شعراء العربية عنده آثر من أي شاعر أخر وننتهي إلي أن تأثر شوقي بالآداب الغربية لم يكن منظماً ، بحيث يبدو واضح المعالم في أدبه بصفة عامة باستثناء " شكسبير " الذي تتبعه بدقة في مسرحيته " كيلوباترا " .
الفصل الثاني
فترة المجد في حياة شوقي وفنه
يعود شوقي من بعثته أواخر سنة 1893 م بعد وفاة الخديوي توفيق ، ليعمل في معية عباس حلمي الثاني بعد أن أقنع به وهما يقتربان بحكم السن بدرجة تذكرنا بعلاقة المتنبي بسيف الدولة الحمداني ، وتشهد الفترة من سنة 1893 : 1914 م ، سنوات المجد الاجتماعي والأدبي بالنسبة لشوقي .
فمن الناحية الاجتماعية كان شوقي شخصيه مرموقة في بلاط الخديوي ، وصار من أقرب المقربين إليه ، يوفده مندوباً عنه إلي الخارج ، ويحضره ندواته واجتماعاته السياسية باعتباره أحد رجاله ، ونتيجة لهذا التقارب , كان شوقي فيما يبدو – المعبر برضي واقتناع – عن سياسة القصر ومدح الخديوي ، وتحددت صلته برجال الأمة وزعماء السياسة بحسب قربهم أو بعدهم من القصر .
الناحية الفنية :
فقد أسهم شوقي في الإحياء الشعري وبدايات التجديد بمحاولات كثيرة كماً وكيفاً ، فشعره في هذه المرحلة يمثل مرحلة متقدمة من مراحل إحياء الشعر العربي التي بدأها البارودي ، حيث صارت الجملة الشعرية أصفي لغة ، وأثري خيالاً ، وأقوي تركيباً ، محمله طاقه غنائية عذبة ، موظفة عناصر التراث القديم ومطورة لها ، وهذه العودة إلي مصادر العروبة في الفن هي التي وحدت " الذوق " العربي حول شعر شوقي ، وأهلته بالتالي ليكون أمير الشعر العربي سنة 1927 م .
كذلك نجد عند شوقي في أثناء هذه الفترة بدايات للشعر " الوجداني " المعبر عن الزاد مثل قصيدته عن النفس التي يبدأها بقوله :
صحوت واستدركتني ، شيمتي الأدب وبت تنكرني اللذات والطرب
ويذكر فيها بعد ذلك :
أوشكت اتلف أقلامي وتتلفني وما أنلت بني مصر الذي طلبوا
هموا رأوا أن تظل القضب مغمدة فلن تذيب سوي أغمادها القضب
ويكاد ينفرد شوقي أيضاً في هذه المرحلة ، بما يمكن أن نسميه بالشعر الوطني الذي يستلهم تاريخ مصر منذ الفراعنة مشيداً بحضارتها الخالدة ، وتاريخها العريق تعبيراً عن رغبة مصر في التحرر والاستقلال والقيام بدورها .
الفصل الثالث
العاطفة الهادئة المركزة التي تنأي عن الصخب
وأقتبس هنا ما ذكره الدكتور محمد زكي العشماوي عن هذه العاطفة " إنها العاطفة الخاضعة لسلطان العقل والفن ، وليست العاطفة المشبوبة بغير قيد أو شرط ، فالعاطفة مهما بلغ صدقها لا تستطيع وحدها أن تحقق الفن ، إنها عامل أساسي وجوهري في التجربة الشعرية ، ولكن لابد أن تمتزج بعقل الفنان الخالق امتزاجاً يحقق الاعتدال والتوازن ، ذلك أن الذي يحدد القيمة النهائية للعمل الفني هو الفن ، لا العاطفة المشبوبة ، أو الصادقة وحدها .
هنا يختلف شوقي عن حافظ ، فبينما يؤثر شوقي العاطفة الهادئة ، الخاضعة لسيطرة الشاعر ، والتعبير عن الانفعالات الجياشة الصاخبة ، إذ بحافظ يؤثر طبيعته الخاصة التي تتمثل في قدرته علي إثارة الانفعال بما يمتلك من عاطفة مشبوبة ، ومن هدير الخواطر المتدفقة ، ومن اللغة التجسيدية ذات الإيقاع الخاص والتوتر الخاص ، لغة كلغة الأقدمين ، لغة ترج وتجرف ، ذات موج عال من الانفعال ، ولكي نخرج من التجريد إلي التحديد ، دعنا نتخير المقطعين الأولين من رثاء حافظ وشوقي لسعد زغلول " توفي 1927 م " ، وقول حافظ :
إيه ياليل هل شهدت المضابا كيف ينصب في النفوس انصبابا
بلغ المشرقين قبل انبلاج الصبح أن الرئيس ولي وغابا
وانع للنيرات سعداً فسعد كان أمضي في الأرض منها شهابا
يقول شوقي :
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها وانحني الشرق عليها فبكاها
ليتني في الركب لما أفلت " يوشع " ، همت ، فنادي ، فثناها
علي أن الذي أكسب الصورة روعتها ، ومنحها هيبتها تلك العلاقات التي تآلفت من كلمات البيت والتلاؤم الموسيقي بين " شيعوا " و " مالوا " وبين " أنحني الشرق عليها " ثم بين " ضخاها " و" بكاها " ، ثم انتشار حروف المد علي طول البيت بإيقاع متناغم ، هذا التلاؤم لا ينصرف تأثيره إلي مدي تفاعل هده الأصوات ، بل بالإحساس العام الذي ينتهي إليه البيت ، وبالموجة الهادئة التي تخطوا خطوات حزينة وفي نغم موقع .
فإذا انتقلنا إلي البيت التالي ، وجدنا شوقي يستعين في إشاعة الحزن بمهارات أخري ، فاستعاد موقف النبي " يوشع " الذي طلب من ربه أن يؤخر له مغرب الشمس فاستجاب له ربه ، فليت شوقي كان في موقف يوشع ، حين همت الشمس بالغروب ، فنادي ربه فاستجاب له ، فثناها عن الغروب ، استطاع شوقي باستعارة موقف يوشع أن يعبر عن حسرته لاغترابه وحرمانه من تشييع جنازة سعد ، ومن جزعه لفراقه . ومن إدراكه للخسارة التي تكبدها الشرق كله بموت سعد ، والتي كانت تحتاج إلي معجزة تؤخر حدوثها .
ويكفيك أن تقرأ البيت الثاني مره ثانية ، لكي تري ما فعله شوقي بموسيقي البيت ، حين توالت كلمات بعينها مثل " أفلت " في نهاية الشطر الأول ، ثم " همت " " فنادي " " فثناها " في الشطر الثاني ، ثم أليس العطف بالفاء – هو الأخر ، قد منحنا الإحساس أمام حدث جلل ، يوشك أن يقع ، ولا بد من تفاديه بأي ثمن ... ولعلنا بهذا الشاهد نكون قد أوضحنا ما عنيناه من قبل حين قلنا ، أن عاطفة شوقي ليست مدفوعة بغلبة الانفعال الصاخب ، أو الحاد ، ولكنها العاطفة التي يحكمها عقل الفنان الخالق وأرادته الفنية حين يسيطران علي التجربة ، ويخضعان لسلطانهما ، أقول ، ومن اليسير أن نربط بين هذه العاطفة وبين " موقف " شوقي من التجديد ، بهذه الدرجة من الهدوء أخذ من التجديد ما يتواءم مع مزاجه والأمر يختلف مع حافظ .
الباب الثاني
الفصل الأول : الاعتماد علي الإيقاع الموسيقي اعتمادا واعيا بوظيفته في المعني
الفصل الثاني : تدفق الصور الفنية المنبثقة من الصورة العامة للعمل الفني
الفصل الثالث : كيف كان شوقي ينظم شعره ؟
الفصل الرابع : من المعاني الوطنية في شعر أحمد شوقي
الفصل الأول
الاعتماد علي الإيقاع الموسيقي
اعتمادا واعيا بوظيفته في المعني
حديثنا عن موسيقي شوقي هو ركيزة البحث ، لأننا نبحث عن خصائص موسيقاه من خلال فنون البديع ، وهنا . سنتكلم عن " الموسيقي العامة التي تندرج تحتها فنون البديع الإيقاعية ، ويجمل الدكتور شوقي ضيف وصف هذه القدرة المتميزة عند شوقي ، بقوله " ... ولا أبالغ إذا قولت أنني لا أستمع إلي قصيدة طويلة لشوقي حتي أخال كأنني استمع حقاً إلي " سيمفونية " فموسيقاه تتضخم في أذني واشعر أنها تتضاعف ، وكأن مجاميع من مهرة العازفين يشتركون في إخراجها ، وفي إيقاع نغماتها ، ولا أرتاب في أن ذلك يرجع إلي ضبطه البارع لآلات ألفاظه ، وذبذباتها الصوتية ، وليست المسألة مسألة حذق أو مهارة فحسب ، بل هي أبعد من ذلك غوراً ، هي نبوغ وإلهام ، وإحساس عبقري بالبناء الصوتي للشعر ، وهذه الروعة في الموسيقي تقترن بحلاوة وعذوبة لا تعرف في عصرنا لغير شوقي وربما كانت تلك آيته الكبري في صناعته ، فأنت مهما اختلفت معه في تقدير شعره ، لا تسمعه حتي ترهف له أذنك ، وحتي تشعر كأنما يحدث فيها ثقوباً ، هي ثقوب الصوت الصافي الذي تهدر به المياه بين الصخور ، والصوت يعلو تارة فيشبه زئير البحار حتي تهيج ، وينخفض تارة فيشبه قطرات الفضة التي تسقط من مجاديف الزوارق ، وهي تجري سابحة علي صفحة النيل ... " .
ولنأخذ مثالاً علي ذلك قصيدة " النيل " التي نظمها سنة 1914م ، يقول فيها :
من أي عهد في القرى تتدفق وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من عليا الجنان جداولاً تترقرق
وإذا استرسلنا مع بقية القصيدة استخرجنا المزيد من الدرجات الموسيقية ، المتراوحة بين السرعة حين يكون الحديث عن التدفق والانفجار والانسكاب وبين الهدوء والتدرج حين يكون عن أثار النيل فيما حوله من قري وحقول وحياض وبرود مختلف ألوانها
الفصل الثاني
تدفق الصور الفنية المنبثقة
من الصورة العامة للعمل الفني
وأعني بتدفق الصور ، انبثاقها من بؤرة واحدة ، تنطلق جميعاً هنا وهناك ، ولكنها ترتبط بصلة وثقي بالمنبع ، وتدور حول فلك الأصل الواحد ولنأخذ مثلاً لذلك قصيدة " الهلال " التي نظمها في عيد ميلاده الثلاثين ، يقول فيها :
سنون تعاد ودهر يعيد لعمره ما في الليالي جديد
أضاء لآدم هذا الهلال فكيف تقول الهلال الوليد
نعد عليه الزمان القريب ويحصي علينا الزمان البعيد
علي صفحتيه حديث القري وأيام عاد ودنيا ثمود
وطيبة أهله بالملوك وطيبة مقفرة بالصعيد
يزول ببعض سناه الصفا ويفني ببعض سناه الحديد
ومن عجب وهو جد الليالي يبيد الليالي فيما يبيد
يقولون يا عام قد عدلت لي فيا ليت شعري بماذا تعود ؟
لقد كنت لي أمس ما لم أرد فهل أنت لي اليوم ما لا أريد
ومن صابر الدهر صبري له شكي في الثلاثين شكوي لبيد
ظمئت ومثلي بري أحق كأني " حسين " ودهري " يزيد "
تغابيت حتي صحبت الجهول وداريت حتي صحبت الحسود
نظم شوقي هذه القصيدة في مناسبة عيد ميلاده الثلاثين ، لقد انصرم عام أخر من عمره ، ومن ثم كان من الطبيعي أن يلقي بنظره إلي الوراء ، ليري حصيلة هذا العام ، بل ومقدار ما أنجزه في الثلاثين التي مضت ، إنه ليشعر بان تلك السنون الخالية كانت جميعاً من نمط واحد ، فإحساسه بأن حياته مرت كلها علي وتيرة واحدة يدفعه إلي إسقاط هذه الرتابة علي الزمن ذاته .
" سنون تعاد ودهر يعيد " هذه هي القضية العامة الذي يستهل بها الشاعر قصيدته ولفظة " تعاد " تعني أن الدهر يرجع السنين لنا كما هي ، أو يجعلها تؤوب إلينا كما رحلت عنا ، وهي تعني كذلك أن الدهر " يكرر " هذه السنين ، وغني عن الذكر ما في المدلولين – وكلاهما مقصود – من صفة الرتابة والآلية ، السنون تعود وتعاد ، ولا شئ جديد .
والهلال يطل علي آدم ، ومن ولد آدم عاد وثمود .
ومن ولده المصريون بأمجادهم ، ومنهم أجداد الشاعر وآباؤه ، وهم العرب المصريون ، ومن ولدهم الشاعر نفسه ، ومع الشاعر تتقلب الأيام بالأحداث ، وعما رأته قبيلة عاد وقبيلة ثمود من عز ونعمة ثم دمرتا ، بل لا تختلف عما رآه الصخر ، لقد كان صلداً فتفتت ، أو الحديد ، كان جلمداً فتذوب ، حتي وجد الشاعر نفسه وقد شكي شكوي لبيب بعد أن طال به الأجل ، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره فهو آدم ، وهو طيبة ، وهو الصفا ، وهو الحديد ، بل هو الحسين المغتال ، ودهره يزيد الجبار ، ولكن أتري ثمة علاقة بين قومه وقوم عاد أو ثمود ؟ أتري ثمة علاقة بينه وبين صالح أو هود ؟ ولم لا ؟
أتري ثمة علاقة بينه وبين الهلال ، يضئ للناس في الأرض وهو مقيد بضوء الشمس ؟!
إن ظهور الهلال في عيد ميلاد الشاعر كان تبعاً لتدفق صور لا تنتهي ولو أراد أن يتعقبها لما توقف عند البيت الثاني عشر ، لأن الدائرة التي رسمها كانت غنية بالعطاء .
فشوقي كثيراً ما يجنح إلي استقصاء الصور الجزئية المرتبطة بالصورة العامة لموضوعة وقد يصل بها الشكل النهائي إلي شكل دائري أو غير دائري ، ولكنه مسبوك سبكاً ، ومتصل اتصالاً ، من كلا طرفيه .
وغني عن البيان أنني قد عرضت للخصائص التي لم يختلف عليها الكثير من دارسي شوقي وشعره ، ولم أتحري الاستقصاء لانتزاع خصيصة هنا أو هناك ، أو ملمحاً غاب عن الأذهان فقد احتاج إلي الرجوع إلي هذه الخصائص البارزة ، وقد تستوقفني خصيصة أخري في ثنايا معالجتي لفنون البديع عند شوقي ، ولكن ما اسعي إليه هو " بديع شوقي " لا " البديع البلاغي
الفصل الثالث
كيف كان شوقي ينظم شعره ؟
يقول داوود بركات رئيس صحيفة الأهرام في عصره : كانت الحادثة من الحوادث تقع صباحاً ، فلا يحل المساء حتي تذاع بين الجمهور بقصيدة شوقي ، لأنه كان للحوادث تأثير شديد فيه ، يهز أعصابه ويستثير نفسه ويحفز خياله . وكان أكثر ما ينظم الشعر وهو ماش أو واقف أو جالس إلي أصحابه ، يغيب عنهم بذهنه وفكره ، يجلس إلي مكتبه للتفكير وعصر الذهن ، فإذا جلس إلي المكتب فلتدوين ما يكون قد نظمه واستوعبه في ذاكرته فبين سيجارة وأخري يجد فكرته ، وبين كلمه وأخري يجد الظرف الموافق لهيكل الفكرة .
أنه ينظم بين أصحابه فيكون معهم وليس معهم ، وينظم في المركبة وفي السكة الحديدية وفي المجتمع الرسمي ، وحين يشاء وحيث يشاء ، ولا يعرف جليسه أنه ينظم إلا إذا سمع منه بادئ بدء غمغمة تشبه النغم الصادر من غور بعيد ، ثم رأي ناظريه وقد برقا وتواترت فيهما حركة المحجرين ثم بصر به وقد رفع يده إلي جبينه ، وأمرها عليه إمراراً خفيفاً هنيهة بعد هنيهة ، فإذا قوطع في خلال النظم انتقل إلي أي حديث يباحث فيه ، حاضر الذهن صافية جميل البادرة كعادته في الحديث . ثم إذا استأنف ذلك المنظوم ولو بعد أيام طوال عاد إليه كأنه لم ينقطع عنه مستظهراً ما تم منه ، حافظ لبقية المعني الذي يضمره ويكتب القصيدة بعد تمامها وربما نسيها شهراً ثم ذكرها فكتبها في جلسة واحدة .
لم يكن شوقي يختار وقتاً معلوماً لنظم شعره فهو مستعد دائماً لإقتبال ربة الشعر كي تنزل عليه بإلهامها ، لكن المعروف عنه أنه كثيراً ما ينظم الشعر بعد قضاء سهراته في المطاعم والنوادي وقد يظل ينظم حتي منتصف الساعة الرابعة من الصباح ، وكأنه يسوي ليلاً ما صادته شباك ذاكرته نهاراً .
الفصل الرابع
من المعاني الوطنية
في شعر أحمد شوقي
يزخر ديوان شوقي بالمعاني الوطنية المتنوعة ، وقد ضمنت الصحف انتشار قصائده وسرعة رواجها بين الناس كما ساهمت المناسبات المتزاحمة في ربط الصلة بين معانيه الوطنية ومعاصريه ، فقد كان حساساً لما يجد علي أرض مصر من حوادث حتي وهو في منفاه ، يلتقطها ليصدع من خلالها برأي أو موقف .
وقد رأينا أن نقسم هذه المعاني الوطنية في الشوقيات علي النحو التالي :
- نقد الإنكليز والمتواطئين معهم
- الوفاء لتراث مصر
- حب الوطن والتنويه بأبطاله
- استنهاض الهمم
- الإيمان بالشعب وبالمؤسسات والدستور
- التنويه بالثورة العربية
- الدعوة إلي العلم والمعرفة
- التسامح الديني
لئن كانت المعاني الوطنية في شعر شوقي موصولة العري متماسكة الأركان ، إلا إن الباحث يحتاج إلي تصنيفها والنظر إلي زواياها المختلفة وقد اعتبرت هذه المعاني الوطنية في مد وجذر بتوجه فيها شوقي بالقول للاستعمار حيناً و إلي الشعب المصري ومجاهديه حيناً أخر .
الباب الثالث
الفصل الأول :
أولاً : نقد الإنكليز والمتواطئين معهم
ثانياً : الوفاء لتراث مصر
ثالثاً : تاريخ مصر
الفصل الثاني :
أولاً : الولاء للإسلام
ثانياً : حب الوطن
ثالثاً : استنهاض الهمم
الفصل الثالث :
أولاً : الإيمان بالشعب وبالمؤسسات والدستور
ثانياً : التسامح الديني
ثالثاً : التنويه بالثورة العربية
الفصل الرابع :
أولاً : الدعوة إلي العلم والمعرفة
ثانياً : من الخصائص الفنية في وطنيات شوقي
ثالثاً : بناء القصيدة
الفصل الخامس :
أ - الصورة الشعرية القائمة علي التشبيه
ب- الصورة الشعرية القائمة علي الاستعارة
جـ - الصورة النغمية أو الرصانة الشعرية
الفصل الأول
أولاً : نقد الإنكليز والمتواطئين معهم
إن الحوادث التي كانت تجد في مصر هي التي تذكي في نفس شوقي لهيب وطنيته ، ومن الحوادث العظيمة نقل الطاغية كرومر من مصر بعد أن جثم علي صدرها أربعا وعشرين سنه يعسف بالناس ويقتلهم وينهب خيرات البلاد ، وينصب من يشاء ويعزل من يشاء .
وقد خطب كرومر يوم رحيله عن مصر في حفل توديع أقيم له سنة 1907 فندد بإسماعيل وعصره وذم المصريين وشتمهم لأنهم في نظره لم يقدروا منن الاحتلال الإنكليزي ولم يعترفوا بجميله عليهم .
ومما ورد في خطبة اللورد كرومر وكان قادحا لسخط شوقي قوله : " أننا في ربع قرن قد أدينا عملا طيبا علي ما فيه من القصور ... ولا يمكن أن أصدق أنه يمكن للمصريين أن يتنكروا للتمدن الغربي الذي جلبته لهم إنكلترا في خلال الخمسة والعشرين عاما ، ذلك التمدن الذي نشلهم من وهدة اليأس بعدما هرموا فيها . وهب أبناء الجيل الحاضر لا يعترفون بهذه الحقيقة فإني لا أزال آمل أن يعترف بها أبناؤهم ، إذ المعتاد أن يكون أولاد العميان مبصرين ... إن الاحتلال البريطاني سيدوم ويبقي ... ولا يكن عند أحد ريب في هذه الحقيقة الثابتة " .
وقد تجلي غضب شوقي في قصيدة مطوله عبر فيها عن غضبه وغضب الناس تجاه وقاحة المستعمر وتحديه لحقوق الشعب ، وجعل أي احتلال هو مرض عضال لابد للشعوب أن تبدأ منه يوماً :
أيامكم أم عهد إسماعيلا أم أنت فرعون يسوس النيل
أم حاكم في أرض مصر بأمره لا سائلاً أبداً ولا مسؤولا
لما رحلت عن البلاد تشهدت وكأنك الداء العياء رحيلا
أوسعتنا يوم الوداع إهانة أدب لعمرك لا يصيب مثيلا
اليوم أخلفت الوعود حكومة كنا نظن عهودها الإنجيلا
وكما نقد شوقي كرومر باعتباره ممثلا للاحتلال البريطاني وشنع بأعماله ، نقد كذلك سلوك المصريين المتواطئين مع الاحتلال السائرين علي نهجه ، المتشبهين بأذياله ، ومن هؤلاء نذكر رئيس الوزارة " رياض باشا " الذي طالب الخديوي عباس أن يعتذر إلي الإنكليز لأنه نقد أحد قاداتهم ، ولما أبي الملك أن يعتذر تقدم رياض رئيس الوزارة المصرية من كرومر وبرأ نفسه من صنيع الملك وراح يلح في الأعذار وألقي خطاباً مجد فيه الإنكليز ونقد عباساً ودولته . ومما ورد علي لسان رياض باشا في هذه الخطبة قوله منوهاً بمزايا الاحتلال : " فهذه اليد الفعالة قد شملتنا ، وهي التي كانت لنا معوانا ، بل متمماً ومكملاً لهذا المشروع ، فحق علينا أن نعرف هذه المبرة ، ونقدم لجنابة ( كرومر) واجب الشكر ، ونثني عليه أطيب الثناء ، ونرجو ، ألا يترك هذا المولود في المهد صبيا ، بل يراعيه بعين عنايته ويواسيه ويواليه إلي أن يتربي ويبلغ أشده ، ويصير رجلاً قوياً يقوم بأود نفسه .
ولئن استنكر الحاضرون هذا التملق الفاضح فإن شوقي خرج من مجرد الاستنكار إلي التنديد بقصيدة رد فيها علي هذه الخطبة ، والممالاة لمن قهروا مصر والمصريين :
غمرت القوم إطراء وحمدا وهم غمروك بالنعم الجسام
رأوا بالأمس أنفك في الثرايا فكيف اليوم أصبح في الرغام
خطبت فكنت خطباً لا خطيباً أضيف إلي مصائبنا العظام
لهجت بالاحتلال وما أتاه وجرحك منه لو أحسست دام
وما أغناه عما قال فيه وما أغناك عن هذا الترامي
أجبت البلاد طويل دهر وذا ثمن الولاء والاحترام
ثانيا : الوفاء لتراث مصر
تغني شوقي بتراث مصر العظيم في غرر من قصائده المطولة ، وتجلي اعتزازه بهذا التراث المتنوع صريحا أراد أن ينقله غلي جيل الشباب حتي يبتعثوه حيا ما جدا من جديد .
ثالثاً : تاريخ مصر
لقد دون شوقي تاريخ مصر في قصائد مطوله مثل " أيها النيل " و " وداع اللورد كرومر " وخاصة في " كبار الحوادث في وادي النيل " التي قدمها للمؤتمر الدولي المنعقد في جنيف في سبتمبر 1894 بصفته مندوبا للحكومة المصرية ، وهي تدل دلاله واضحة علي ما يكنه الشاعر لوطنه من ألوان الوفاء والولاء من جهة وعلي ثراء ثقافته وقدرته علي تجاوز المادة التاريخية إلي ما وراءها كي يستنهض الأمة ضد من يحتل أرضها ويشكك في قيمة تراثها ويزرع بذرة الإحباط في نفوس أبنائها ، كان لابد أن يصدح الشاعر بعظمة مصر ويذكر بمآثرها وعلمائها وعظمائها وإشعاعها الحضاري علي أصقاع العالم يقول طالع هذه القصيدة :
همت الفلك واحتواها الماء وحداها بمن تقل الرجاء
في هذه القصيدة المطولة التي قارب عدد أبياتها الثلاثمائة يذكر الشاعر بتاريخ مصر عندما كانت تسيطر علي البحار وتملك الرقاب ويشيد بإنجازات الفراعنة وخاصة منها الأهرامات ويصور عصرهم تصويرا مبدعا ، ويعدد مآثرهم لا تعداد المؤرخ الموضوعي المحايد وإنما تعداد المؤرخ الذي ينفعل مع التاريخ حتي يصرخ متحمساً معتزاً :
وبنينا فلم نخل لبان وعلونا فلم يجزنا علاء
وملكنا فالمالكون عبيد والبرايا بأسرهم أسراء
ويتعرض الشاعر إلي أعلام العصور المختلفة فيبرز عظمة رمسيس وهيبته وقوة سلطانه ومحبة الناس له وحنكته السياسية وحسن تدبيره الدولة وعدم اغتراره بالدساسين والسفهاء وهو بكل هذه الخصال يفوق علي جميع الملوك علي مر الأزمان وحتي العصر الحديث ، فهو المثال الذي يصلح أن يكون قدوة لغيره وعلي هدي خطاه ينبغي أن يسير كل ملك يروم بسط سلطانه والاحتفاظ بعرشه
[center]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]